فصل: عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الاية رقم ‏(‏232‏)‏

‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلا تعضلوهن‏{‏ روي أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال‏:‏ وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه‏.‏ فنزلت الآية‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال‏:‏ ‏(‏إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح‏)‏ فقال‏:‏ آمنت بالله، وزوجها منه‏.‏ وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏{‏‏.‏ وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال‏:‏ حدثني معقل بن يسار قال‏:‏ كانت لي أخت فخطبت إلي فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت‏:‏ منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب لا أزوجك أبدا فأنزل الله، أو قال أنزلت‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏{‏ فكفرت عن يمين وأنكحتها إياه‏.‏ في رواية للبخاري‏:‏ فحمي معقل من ذلك أنفا، وقال‏:‏ خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ هو معقل بن سنان ‏(‏بالنون‏)‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان‏.‏ وقال الطحاوي‏:‏ هو معقل بن سنان‏.‏

إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى‏{‏فلا تعضلوهن‏{‏ للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها‏.‏ واحتج بها أصحاب أبي حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا‏:‏ لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال‏{‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ ولم يذكر الولي‏.‏ وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى‏.‏ والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏{‏ بلوغ الأجل في هذا الموضع‏:‏ تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة‏.‏ و‏{‏تعضلوهن‏{‏ معناه تحبسوهن‏.‏ وحكى الخليل‏:‏ دجاجة معضل‏:‏ قد احتبس بيضها‏.‏ وقيل‏:‏ العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال‏:‏ أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي‏.‏ وأعضل الأمر‏:‏ إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم‏:‏ إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ أصل العضل من قولهم‏:‏ عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة‏:‏ نشب بيضها‏.‏ وفي حديث معاوية‏:‏ ‏(‏معضلة ولا أبا حسن‏)‏، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج‏.‏ وقال طاوس‏:‏ لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس‏.‏ وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي‏:‏

إذا المعضلات تصدينني كشفت حقائقها بالنظر

ويقال‏:‏ أعضل الأمر إذا اشتد‏.‏ وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء‏.‏ وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضُلها ويعضِلها ‏(‏بالضم والكسر‏)‏ لغتان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك يوعظ به من كان‏{‏ ولم يقل ‏{‏ذلكم‏{‏ لأنه محمول على معنى الجمع‏.‏ ولو كان ‏{‏ذلكم‏{‏ لجاز، مثل ‏{‏ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم‏{‏ أي ما لكم فيه من الصلاح‏.‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏{‏ ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏233‏)‏

‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏والوالدات‏{‏ ابتداء‏.‏ ‏{‏يرضعن أولادهن‏{‏ في موضع الخبر‏.‏ ‏{‏حولين كاملين‏{‏ ظرف زمان‏.‏ ولما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثم ولد، فالآية إذا في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، قاله السدي والضحاك وغيرهما، أي هن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج على ما يأتي‏.‏ وعلى هذا يشكل قوله‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏{‏ لأن المطلقة لا تستحق الكسوة إذا لم تكن رجعية بل تستحق الأجرة إلا أن يحمل على مكارم الأخلاق فيقال‏:‏ الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها‏.‏ وقيل‏:‏ الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفي الزوجات‏.‏ والأظهر أنها في الزوجات في حال بقاء النكاح، لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، والزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أو لم ترضع، والنفقة والكسوة مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع لم يكمل التمكين، فقد يتوهم أن النفقة تسقط فأزال ذلك الوهم بقوله تعالى‏{‏وعلى المولود له‏{‏ أي الزوج ‏{‏رزقهن وكسوتهن، في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط‏.‏

قوله تعالى‏{‏يرضعن‏{‏ خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هو خبر عن المشروعية كما تقدم‏.‏

واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال‏:‏ وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن‏{‏ ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط‏.‏ وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب‏.‏ وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به‏.‏ فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة‏.‏ وفي كتاب ابن الجلاب‏:‏ رضاعه في بيت المال‏.‏ وقال عبدالوهاب‏:‏ هو فقير من فقراء المسلمين‏.‏ وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل، هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع‏.‏ وكل من يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب‏.‏ وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الأم، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها‏.‏ قال الشافعي،‏:‏ لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا، وسيأتي ما للعلماء في هذا عند قوله تعالى‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏‏.‏ يقال‏:‏ رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ورضع يرضع رضاعا ورضاعة ‏(‏بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني‏)‏ واسم الفاعل راضع فيهما‏.‏ والرضاعة‏:‏ اللؤم ‏(‏مفتوح الراء لا غير‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏حولين‏{‏ أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني‏.‏ وقيل‏:‏ سمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب‏.‏ ‏{‏كاملين‏{‏ قيد بالكمال لأن القائل قد يقول‏:‏ أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، قال الله تعالى‏{‏فمن تعجل في يومين‏}‏البقرة‏:‏203‏]‏ وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني‏.‏ وقوله تعالى‏{‏لمن أراد أن يتم الرضاعة‏{‏ دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين‏.‏ وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك‏.‏ والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن ‏{‏لمن أراد أن تتم الرضاعة‏{‏ بفتح التاء ورفع ‏{‏الرضاعة‏{‏ على إسناد الفعل إليها‏.‏ وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من ‏{‏الرضاعة‏{‏ وهي لغة كالحضارة والحضارة‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قرأ ‏{‏الرضعة‏{‏ على وزن الفعلة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ ‏{‏أن يكمل الرضاعة‏{‏‏.‏ النحاس‏:‏ لا يعرف البصريون ‏{‏الرضاعة‏{‏ إلا بفتح الراء، ولا ‏{‏الرضاع‏{‏ إلا بكسر الراء، مثل القتال‏.‏ وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء‏.‏

انتزع مالك رحمه الله تعالى ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة‏.‏ هذا قوله في موطئه، وهي رواية محمد بن عبدالحكم عنه، وهو قول عمر وابن عباس، وروي عن ابن مسعود، وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور‏.‏ وروى ابن عبدالحكم عنه الحولين وزيادة أيام يسيرة‏.‏ عبدالملك‏:‏ كالشهر ونحوه‏.‏ وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال‏:‏ الرضاع الحولين والشهرين بعد الحولين، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال‏:‏ ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث‏.‏ وحكي عن النعمان أنه قال‏:‏ وما كان بعد الحولين إلى ستة أشهر فهو رضاع، والصحيح الأول لقوله تعالى‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏{‏ وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين‏.‏ وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا رضاع إلا ما كان في الحولين‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ

قلت‏:‏ وهذا الخبر مع الآية والمعنى، ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له‏.‏ وقد روي عن عائشة القول به‏.‏ وبه يقول الليث بن سعد من بين العلماء‏.‏ وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير‏.‏ وروي عنه الرجوع عنه‏.‏ وسيأتي في سورة ‏{‏النساء‏{‏ مبينا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال جمهور المفسرين‏:‏ إن هذين الحولين لكل ولد‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهرا، فان مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا، لقوله تعالى‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏}‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وعلى هذا تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعلى المولود له‏{‏ أي وعلى الأب‏.‏ ويجوز في العربية ‏{‏وعلى المولود لهم‏{‏ كقوله تعالى‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏يونس‏:‏ 42‏]‏ لأن المعنى وعلى الذي ولد له و‏{‏الذي‏{‏ يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏رزقهن وكسوتهن‏{‏ الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه‏.‏ وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن‏}‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها‏.‏

وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من مال بغير علمه فهل علي في ذلك جناح‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏‏.‏ والكسوة‏:‏ اللباس‏.‏ وقوله‏{‏بالمعروف‏{‏ أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط‏.‏ ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها من غير تقدير مد ولا غيره بقوله تعالى‏{‏لا تكلف نفس إلا وسعها‏{‏ على ما يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أي لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد‏.‏

في هذه الآية دليل لمالك على أن الحضانة للأم، فهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النكاح، وذلك حق لها، وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا بلغ الولد ثماني سنين وهو سن التمييز، خير بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية‏.‏ وروى النسائي وغيره عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له‏:‏ زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا أبوك وهذه أمك فخذ أيهما شئت‏)‏ فأخذ بيد أمه‏.‏ وفي كتاب أبي داود عن أبي هريرة قال‏:‏ جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استهما عليه‏)‏ فقال زوجها‏:‏ من يحاقني في ولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أحدهما شئت‏)‏ فأخذ بيد أمه فانطلقت به‏.‏ ودليلنا ما رواه أبو داود عن الأوزاعي قال‏:‏ حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت أحق به ما لم تنكحي‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد أن الأم أحق به ما لم تنكح‏.‏ وكذا قال أبو عمر‏:‏ لا أعلم خلافا بين السلف من العلماء في المرأة المطلقة إذا لم تتزوج أنها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرج‏.‏

ثم اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميز وعقل بين أبيه وأمه وفيمن هو أولى به، قال ابن المنذر‏:‏ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير‏.‏،‏"‏روى أبو داود عن علي قال‏:‏ خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة، فقال جعفر‏:‏ أنا آخذها أنا أحق بها، ابنة عمي وخالتها عندي والخالة أم‏.‏ فقال علي‏:‏ أنا أحق بها،‏:‏ ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحق بها‏.‏ فقال زيد‏:‏ أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها‏.‏ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا قال‏:‏ ‏(‏وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حق للأم في الولد إذا تزوجت‏.‏

قلت‏:‏ كذا قال في كتاب الأشراف له‏.‏ وذكر القاضي عبدالوهاب في شرح الرسالة له عن الحسن أنه لا يسقط حقها من الحضانة بالتزوج‏.‏ وأجمع مالك والشافعي والنعمان وأبو ثور على أن الجدة أم الأم أحق بحضانة الولد‏.‏ واختلفوا إذا لم يكن لها أم وكان لها جدة هي أم الأب، فقال مالك‏:‏ أم الأب أحق إذا لم يكن للصبي خالة‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ قال مالك‏:‏ وبلغني ذلك عنه أنه قال‏:‏ الخالة أولى من الجدة أم الأب‏.‏ وفي قول الشافعي والنعمان‏:‏ أم الأب أحق من الخالة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الأب أولى بابنه من الجدة أم الأب‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا عندي إذا لم يكن له زوجة أجنبية‏.‏ ثم الأخت بعد الأب ثم العمة‏.‏ وهذا إذا كان كل واحد من هؤلاء مأمونا على الولد، وكان عنده في حرز وكفاية، فإذا لم يكن كذلك لم يكن له حق في الحضانة، وإنما ينظر في ذلك إلى من يحوط الصبي ومن يحسن إليه في حفظه وتعلمه الخير‏.‏ وهذا على قول من قال إن الحضانة حق الولد، وقد‏"‏روى ذلك عن مالك وقال به طائفة من أصحابه، وكذلك لا يرون حضانة لفاجرة ولا لضعيفة عاجزة عن القيام بحق الصبي لمرض أو زمانة‏.‏ وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون عن مالك أن الحضانة للأم ثم الجدة للأم ثم الخالة ثم الجدة للأب ثم أخت الصبي ثم عمة الصبي ثم ابنة أخي الصبي ثم الأب‏.‏ والجدة للأب أولى من الأخت والأخت أولى من العمة والعمة أولى ممن بعدها، وأولى من جميع الرجال الأولياء‏.‏ وليس لابنة الخالة ولا لابنة العمة ولا لبنات أخوات الصبي من حضانته شيء‏.‏ فإذا كان الحاضن لا يخاف منه على الطفل تضييع أو دخول فساد كان حاضنا له أبدا حتى يبلغ الحلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ حتى يثغر، وحتى تتزوج الجارية، إلا أن يريد الأب نقلة سفر وإيطان فيكون حينئذ أحق بولده من أمه وغيرها إن لم ترد الانتقال‏.‏ وإن أراد الخروج لتجارة لم يكن له ذلك‏.‏ وكذلك أولياء الصبي الذين يكون مآله إذا انتقلوا للاستيطان‏.‏ وليس للأم أن تنقل ولدها عن موضع سكنى الأب إلا فيما يقرب نحو المسافة التي لا تقصر فيها الصلاة‏.‏ ولو شرط عليها في حين انتقاله عن بلدها أنه لا يترك ولده عندها إلا أن تلتزم نفقته ومؤونته سنين معلومة فإن التزمت ذلك لزمها‏:‏ فإن ماتت لم تتبع بذلك ورثتها في تركتها‏.‏ وقد قيل‏:‏ ذلك دين يؤخذ من تركتها، والأول أصح إن شاء الله تعالى، كما لو مات الوالد أو كما لو صالحها على نفقة الحمل والرضاع فأسقطت لم تتبع بشيء من ذلك‏.‏

إذا تزوجت الأم لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها عند مالك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا نكحت فقد انقطع حقها‏.‏ فإن طلقها لم يكن لها الرجوع فيه عند مالك في الأشهر عندنا من مذهبه‏.‏ وقد ذكر القاضي إسماعيل وذكره ابن خويز منداد أيضا عن مالك أنه اختلف قوله في ذلك، فقال مرة‏:‏ يرد إليها‏.‏ وقال مرة‏:‏ لا يرد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ فإذا خرجت الأم عن البلد الذي به ولدها ثم رجعت إليه فهي أحق بولدها في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي‏.‏ وكذلك لو تزوجت ثم طلقت أو توفى عنها زوجها رجعت في حقها من الولد‏.‏

قلت وكذلك قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب، فإن طلقها الزوج أو مات عنها كان لها أخذه لزوال العذر الذي جاز له تركه‏.‏

فإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهي فارغة غير مشغولة بزوج ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا لم يكن لها بعد ذلك أخذه‏.‏

واختلفوا في الزوجين يفترقان بطلاق والزوجة ذمية، فقالت طائفة‏:‏ لا فرق بين الذمية والمسلمة وهي أحق بولدها، هذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وابن القاسم صاحب مالك‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وقد روينا حديثا مرفوعا موافقا لهذا القول، وفي إسناده مقال‏.‏ وفيه قول ثان أن الولد مع المسلم منهما، هذا قول مالك وسوار وعبدالله بن الحسن، وحكي ذلك عن الشافعي‏.‏ وكذلك اختلفوا في الزوجين يفترقان، أحدهما حر والآخر مملوك، فقالت طائفة‏:‏ الحر أولى، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأي‏.‏ وقال مالك‏:‏ في الأب إذا كان حرا وله ولد حر والأم مملوكة‏:‏ إن الأم أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الأب أحق به‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده‏{‏ المعنى‏:‏ لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، هذا قول جمهور المفسرين‏.‏ وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ‏{‏تضار‏{‏ بفتح الراء المشددة وموضعه جزم على النهي، وأصله لا تضارر على الأصل، فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهكذا يفعل في المضاعف إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول‏:‏ عض يا رجل، وضار فلانا يا رجل‏.‏ أي لا ينزع الولد منها إذا رضيت بالإرضاع وألفها الصبي‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان بن عاصم وجماعة ‏{‏تضار‏{‏ بالرفع عطفا على قوله‏{‏تكلف نفس‏{‏ وهو خبر والمراد به الأمر‏.‏ وروى يونس عن الحسن قال يقول‏:‏ لا تضار زوجها، تقول‏:‏ لا أرضعه، ولا يضارها فينزعه منها وهي تقول‏:‏ أنا أرضعه‏.‏ ويحتمل أن يكون الأصل ‏{‏تضارر‏{‏ بكسر الراء الأولى، ورواها أبان عن عاصم، وهي لغة أهل الحجاز‏.‏ فـ ‏{‏والدة‏{‏ فاعله، ويحتمل أن يكون ‏{‏تضارر‏{‏ فـ ‏{‏والدة‏{‏ مفعول ما لم يسم فاعله‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ ‏{‏لا تضارر‏{‏ براءين الأولى مفتوحة‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ‏{‏تضار‏{‏ بإسكان الراء وتخفيفها‏.‏ وكذلك ‏{‏لا يضار كاتب‏{‏ وهذا بعيد لأن المثلين إذا اجتمعا وهما أصليان لم يجز حذف أحدهما للتخفيف، فإما الإدغام وإما الإظهار‏.‏ وروي عنه الإسكان والتشديد‏.‏ وروي عن ابن عباس والحسن ‏{‏لا تضارر‏{‏ بكسر الراء الأولى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ هو معطوف على قوله‏{‏وعلى المولود‏{‏ واختلفوا في تأويل قوله‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ هو وارث الصبي أن لو مات‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع، كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا، وقاله مجاهد وعطاء‏.‏ وقال قتادة وغيره‏:‏ هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه، وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏ وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق في كتاب ‏{‏معاني القرآن‏{‏ له‏:‏ فأما أبو حنيفة فإنه قال‏:‏ تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذي رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ فقالوا قولا ليس في كتاب الله ولا نعلم أحدا قاله‏.‏ وحكى الطبري عن أبي حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا‏:‏ الوارث الذي يلزمه الإرضاع هو وارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره ليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد عصبة الأب عليهم النفقة والكسوة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إن مات أبو الصبي وللصبي مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجبرت الأم على إرضاعه‏.‏ وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبدالعزيز‏:‏ الوارث هو الصبي نفسه، وتأولوا قوله‏{‏وعلى الوارث‏{‏ المولود، مثل ما على المولود له، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه‏.‏ وقال سفيان‏:‏ الوارث هنا هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما فإن مات الأب فعلى الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، ويشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ ولو كان اليتيم فقيرا لا مال له، وجب على الإمام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين، الأخص به فالأخص، والأم أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به، ولا ترجع عليه ولا على أحد‏.‏ والرضاع واجب والنفقة استحباب‏:‏ ووجه الاستحباب قوله تعالى‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏{‏ وواجب على الأزواج القيام بهن، فإذا تعذر استيفاء الحق لهن بموت الزوج أو إعساره لم يسقط الحق عنهن، ألا ترى أن العدة واجبة عليهن والنفقة والسكنى على أزواجهن، وإذا تعذرت النفقة لهن لم تسقط العدة عنهن‏.‏ وروى عبدالرحمن بن القاسم في الأسدية عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال‏:‏ لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه‏.‏ قال‏:‏ وقول الله عز وجل‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ هو منسوخ‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا لفظ مالك، ولم يبين ما الناسخ لها ولا عبدالرحمن بن القاسم، ولا علمت أن أحدا من أصحابهم بين ذلك، والذي يشبه أن يكون الناسخ لها عنده والله أعلم، أنه لما أوجب الله تعالى للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ثم نسخ ذلك ورفعه، نسخ ذلك أيضا عن الوارث‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا تكون النفقة على الصبي نفسه من ماله، لا يكون على الوارث منها شيء على ما يأتي‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قوله ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ قال ابن القاسم عن مالك هي منسوخة، وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين، وتحتار فيه ألباب الشاذين، والأمر فيه قريب، وذلك أن العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم، وتحقيق القول فيه‏:‏ أن قوله تعالى ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ إشارة إلى ما تقدم، فمن الناس من رده إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلف قتادة والحسن ويسند إلى عمر‏.‏ وقالت طائفة من العلماء‏:‏ إن معنى قوله تعالى‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ لا يرجع إلى جميع ما تقدم، وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار، والمعنى‏:‏ وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأم ما على الأب، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل‏.‏

قلت‏:‏ قوله‏{‏وهذا هو الأصل‏{‏ يريد في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو صحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الإرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال‏:‏ وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبدالوهاب، وهو أن المراد به أن الوالدة لا تضار ولدها في أن الأب إذا بذل لها أجرة المثل ألا ترضعه، ‏{‏ولا مولود له بولده‏{‏ في أن الأم إذا بذلت أن ترضعه بأجرة المثل كان لها ذلك، لأن الأم أرفق وأحن عليه، ولبنها خير له من لبن الأجنبية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقال مالك رحمه الله وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء‏:‏ المراد بقوله ‏{‏مثل ذلك‏{‏ ألا تضار، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه‏.‏ وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏وعلى الورثة‏{‏ بالجمع، وذلك يقتضي العموم، فإن استدلوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج‏)‏ قيل لهم الرحم عموم في كل ذي رحم، محرما كان أو غير محرم، ولا خلاف أن صرف الصدقة إلى ذي الرحم أولى لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اجعلها في الأقربين‏)‏ فحمل الحديث على هذا، ولا حجة فيه على ما راموه، والله أعلم‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وأما قول من قال ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ ألا يضار فقول حسن، لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج شيء منها إلا بدليل قاطع‏.‏ وأما قول من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب، فورثته أولى من ورثة الابن وأما حجة من قال على ورثة الابن فيقول‏:‏ كما يرثونه يقومون به‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكان محمد بن جرير يختار قول من قال‏:‏ الوارث هنا الابن، وهو وإن كان قولا غريبا فالاستدلال به صحيح والحجة به ظاهرة، لأن ماله أولى به‏.‏ وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال، والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع، وأن ذلك من مال الصبي‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد قال الله عز وجل ‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏{‏، قيل‏:‏ هذا الضمير للمؤنث، ومع هذا فإن الإجماع حد للآية مبين لها، لا يسع مسلما الخروج عنه‏.‏ وأما من قال‏:‏ ذلك على من بقي من الأبوين، فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع ولدها، وقد مات من كان ينفق عليه وعليها‏.‏ وقد ترجم البخاري على رد هذا القول (1)‏ وساق حديث أم سلمة وهند‏.‏ والمعنى فيه‏:‏ أن أم سلمة كان لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن لهم مال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن لها في ذلك أجرا‏.‏ فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولست بتاركتهم‏.‏ وأما حديث هند فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب‏.‏ فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء‏.‏ وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه‏.‏ فأما القرآن فقد قال الله عز وجل‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏{‏ فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا‏:‏ إذا ترك خاله وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شيء، فهذا مخالف نص القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم، أكثر أهل العلم على خلافه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن أرادا فصالا‏{‏ الضمير في ‏{‏أرادا‏{‏ للوالدين‏.‏ و‏{‏فصالا‏{‏ معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات‏.‏ والفصال والفصل‏:‏ الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل، لأنه مفصول عن أمه‏.‏ ‏{‏عن تراض منهما‏{‏ أي قبل الحولين‏.‏ ‏{‏فلا جناح عليهما‏{‏ أي في فصله، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما، هو الفطام، وفصالهما هو الفصال ليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله‏{‏فإن أرادا فصالا‏{‏ الآية‏.‏ وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين، والتشاور‏:‏ استحراج الرأي، وكذلك المشاورة، والمشورة كالمعونة، وشرت العسل‏:‏ استخرجته، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار‏:‏ متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، والشارة‏:‏ هيئة الرجل، والإشارة‏:‏ إخراج ما في نفسك وإظهاره‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم‏{‏ أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج‏.‏ قال النحاس‏:‏ التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم، مثل ‏{‏كالوهم أو وزنوهم‏}‏المطففين‏:‏ 3‏]‏ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، وأنشد سيبوبه‏:‏

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

ولا يجوز‏:‏ دعوت زيدا، أي دعوت لزيد، لأنه يؤدي إلى التلبيس، فيعتبر في هذا النوع السماع‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك‏.‏ وقد قال عكرمة في قوله تعالى‏{‏لا تضار والدة‏{‏ معناه الظئر، حكاه ابن عطية‏.‏ والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال‏:‏ لا يلزمها رضاعه‏.‏ فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة‏.‏ وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك‏.‏ والأصل البديع فيه أن، هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقال به، وإلى زماننا فتحققناه شرعا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذا سلمتم‏{‏ يعني الآباء، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر، قاله سفيان‏.‏ مجاهد‏:‏ سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع‏.‏ وقرأ الستة من السبعة ‏{‏ما آتيتم‏{‏ بمعنى ما أعطيتم‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏أتيتم‏{‏ بمعنى ما جئتم وفعلتم، كما قال زهير‏:‏

وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل

قال قتادة والزهري‏:‏ المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر‏.‏ وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب ‏{‏سلمتم‏{‏ الرجال والنساء، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال‏.‏ قال أبو علي‏:‏ المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير‏:‏ ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏{‏ مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغني عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏234‏)‏

‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين يتوفون منكم‏{‏ لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، ذكر عدة الوفاة أيضا؛ لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق‏.‏ ‏{‏والذين‏{‏ أي والرجال الذين يموتون منكم‏.‏ ‏{‏ويذرون أزواجا‏{‏ أي يتركون أزواجا، أي ولهم زوجات؛ فالزوجات ‏{‏يتربصن‏{‏؛ قال معناه الزجاج واختاره النحاس‏.‏ وحذف المبتدأ في الكلام كثير؛ كقوله تعالى‏{‏قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار‏}‏الحج‏:‏ 72‏]‏ أي هو النار‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم؛ وهو كقولك‏:‏ السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن؛ فجاءت العبارة في غاية الإيجاز وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى‏:‏ وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون‏.‏ وقال بعض نحاة الكوفة‏:‏ الخبر عن ‏{‏الذين‏{‏ متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن؛ وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم‏.‏

هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص‏.‏ وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج‏}‏البقرة‏:‏240‏]‏ لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفى الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج؛ ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث‏.‏ وقال قوم‏:‏ ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول؛ كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا‏.‏ وهذا غلط بين؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج، فإن خرجت لم تمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا‏.‏ وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء‏.‏ وقد قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها؛ وسيأتي‏.‏

عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين؛ واختاره سحنون من علمائنا‏.‏، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا‏.‏ والحجة لما روي عن على وابن عباس روم الجمع بين قوله تعالى‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏ وبين قوله‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول‏.‏ وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج؛ أخرجه في الصحيح‏.‏ فبين الحديث أن قوله تعالى‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏{‏ محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين؛ ويعتضد هذا بقول ابن مسعود‏:‏ ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده‏.‏ والله أعلم‏.‏ وإنما يعني أنها مخصصة لها؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها‏.‏ وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدرا، توفي بمكة حينئذ وهي حامل، وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة، وولدت بعده بنصف شهر‏.‏ وقال البخاري‏:‏ بأربعين ليلة‏.‏ وروى مسلم من حديث عمر بن عبدالله بن الأرقم أن سبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت‏:‏ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء‏.‏ وقال الحسن والشعبي والنخعي وحماد‏:‏ لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها‏.‏ فاشترطوا شرطين‏:‏ وضع الحمل، والطهر من دم النفاس‏.‏ والحديث حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله‏:‏ ‏(‏فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب‏)‏ كما في صحيح مسلم وأبي داود؛ لأن ‏(‏تعلت‏)‏ وإن كان أصله، طهرت من دم نفاسها على ما قاله الخليل - فيحتمل أن يكون المراد به ههنا تعلت من آلام نفاسها؛ أي استقلت من أوجاعها‏.‏ ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه؛ وإنما الحجة في قوله عليه السلام لسبيعة‏:‏ ‏(‏قد حللت حين وضعت‏)‏ فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت؛ فصح ما قاله الجمهور‏.‏

ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها‏.‏

واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم؛ وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفي وترك امرأة حاملا فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد؛ فعلم أن المقصود الولادة‏.‏

قوله تعالى‏{‏يتربصن‏{‏ التربص‏:‏ التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا‏.‏ ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى‏{‏أسكنوهن‏{‏ وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد، وإنما قال‏{‏يتربصن‏{‏ فبينت السنة جميع ذلك‏.‏ والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏ قالت‏:‏ فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا؛ وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، رواه عنه مالك والثوري ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وابن عيينة والقطان وشعبة، وقد رواه مالك عن ابن شهاب، وحسبك، قال الباجي‏:‏ لم يرو عنه غيره، وقد أخذ به عثمان بن عفان‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر‏.‏ وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات؛ ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم؛ وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة، وبالله التوفيق‏:‏ وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود؛ وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إنما قال الله تعالى‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏ ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت؛ وروي عن أبي حنيفة‏.‏ وذكر عبدالرزاق قال‏:‏ حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال‏:‏ خرجت عائشة بأختها أم كلثوم - حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيدالله - إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها‏.‏ قال‏:‏ وحدثنا الثوري عن عبيدالله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول‏:‏ أبى الناس ذلك عليها‏.‏ قال‏:‏ وحدثنا معمر عن الزهري قال‏:‏ أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج‏.‏ وهذا من عمر رضي الله عنه اجتهاد؛ لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازما لها؛ وهو مقتضى القرآن والسنة، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها‏.‏ وقال مالك‏:‏ ترد ما لم تحرم‏.‏

إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه؛ وعليه أكثر الفقهاء‏:‏ مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لحديث الفريعة‏.‏ وهل يجوز بيع الدار، إذا كانت ملكا للمتوفى وأراد ذلك الورثة؛ فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز، ويشترط فيه العدة للمرأة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ لأنها أحق بالسكنى من الغرماء‏.‏ وقال محمد بن الحكم‏:‏ البيع فاسد؛ لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها‏.‏ وجه قول ابن القاسم‏:‏ أن الغالب السلامة، والريبة نادرة وذلك لا يؤثر في فساد العقود؛ فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فارتابت، قال مالك في كتاب محمد‏:‏ هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء؛ لأنه دخل على العدة المعتادة، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسدا‏.‏ وقال سحنون‏:‏ لا حجة للمشترى وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين؛ لأنه دخل على العدة والعدة قد تكون خمس سنين؛ ونحو هذا‏"‏روى أبو زيد عن ابن القاسم‏.‏

فإن كان للزوج السكنى دون الرقبة، فلها السكنى في مدة العدة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عليه السلام للفريعة - وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن - ‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏‏.‏ لا يقال إن المنزل كان لها، فلذلك قال لها‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك‏)‏ فإن معمرا‏"‏روى عن الزهري أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قتل، وأنه تركها في مسكن ليس لها واستأذنته؛ وذكر الحديث‏.‏ ولنا من جهة المعنى أنه ترك دارا يملك سكناها ملكا لا تبعة عليه فيه؛ فلزم أن تعتد الزوجة فيه؛ أصل ذلك إذا ملك رقبتها‏.‏

وهذا إذا كان قد أدى الكراء، وأما إذا كان لم يؤد الكراء فالذي في المدونة‏:‏ إنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرا؛ لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى ملكا تاما، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكا تاما، وإنما ملك العوض الذي بيده، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى؛ لأن ذلك مال وليس بسكنى‏.‏ وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم للفريعة‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏ يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدى كراء المسكن، أو كان أسكن فيه إلى وفاته، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدة فيه بكراء أو غير كراء، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المقام لازم لها فيه حتى تنقضي عدتها‏.‏

واختلفوا في المرأة يأتيها نعي زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها؛ فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالك بن أنس؛ وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه‏.‏ وقال سعيد بن المسيب والنخعي‏:‏ تعتد حيث أتاها الخبر، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ قول مالك صحيح، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان‏.‏

ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل‏.‏ وفي البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار‏)‏‏.‏ وفي حديث أم حبيبة‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ الإحداد‏:‏ ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعا للذرائع، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك، وليس دهن المرأة رأسها بالزيت والشيرج من الطيب في شيء‏.‏ يقال‏:‏ امرأة حاد ومحد‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ ولم نعرف ‏(‏حدت‏)‏‏.‏ وفاعل ‏(‏لا يحل‏)‏ المصدر الذي يمكن صياغته من ‏(‏تحد‏)‏ مع ‏(‏أن‏)‏ المرادة؛ فكأنه قال‏:‏ الإحداد‏.‏

وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها أنها لا إحداد عليها؛ وهو قول ابن كنانة وابن نافع، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر، وروي عن ابن القاسم أن عليها الإحداد، كالمسلمة؛ وبه قال الليث والشافعي وأبو ثور وعامة أصحابنا؛ لأنه حكم من أحكام العدة فلزمت الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة‏.‏

وفي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فوق ثلاث إلا على زوج‏)‏ دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها؛ فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة‏.‏

هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن المتوفى عنهن أزواجهن، فيدخل فيه الإماء والحرائر والكبار والصغار؛ وهو مذهب الجمهور من العلماء‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أمة ولا على صغيرة؛ حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافا، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أم الولد إذا مات سيدها؛ لأنها ليست بزوجة، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج‏.‏ قال الباجي‏:‏ الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حد لها أمرت بذلك، وإن كانت لا تدرك شيئا من ذلك لصغرها فروى ابن مزين عن عيسى يجنبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة، وذلك لازم لها‏.‏ والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن بنت لها توفي عنها زوجها فاشتكت عينها أفتكحلها‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا‏)‏ مرتين أو ثلاثا؛ كل ذلك يقول ‏(‏لا‏)‏ ولم يسأل عن سنها؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز، وأيضا فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم خلافا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها‏.‏ وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المصبغة والمعصفرة، إلا ما صبغ، بالسواد فإنه رخص فيه عروة بن الزبير ومالك والشافعي، وكرهه الزهري‏.‏ وقال الزهري‏:‏ لا تلبس ثوب عصب، وهو خلاف الحديث‏.‏ وفي المدونة قال مالك‏:‏ لا تلبس رقيق عصب اليمن؛ ووسع في غليظه‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتان والقطن‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض؛ قال القاضي عياض‏:‏ ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة لا تمسه الحاد رقيقا كان أو غليظا‏.‏ ونحوه للقاضي عبدالوهاب قال‏:‏ كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحاد‏.‏ ومنع بعض، مشايخنا المتأخرين جيد البياض الذي يتزين به، وكذلك الرفيع من السواد‏.‏ وروى ابن المواز عن مالك‏:‏ لا تلبس حليا وإن كان حديدا؛ وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحلي من التجمل فلا تلبسه الحاد‏.‏ ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليواقيت والزمرد وهو داخل في معنى الحلي‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، إلا الحسن فإنه قال‏:‏ ليس بواجب؛ واحتج بما رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت‏:‏ لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال‏:‏ المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضبان وتصنعان ما شاءا‏.‏ وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم؛ ولعل الحسن لم تبلغه، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر وهى امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي‏.‏ قال ابن المنذر؛ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوبه؛ وكان أحمد بن حنبل يقول‏:‏ هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به؛ وقاله إسحاق‏.‏

ذهب مالك والشافعي إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة‏.‏ أو أكثر؛ وهو قول ربيعة وعطاء‏.‏ وذهب الكوفيون‏:‏ أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي، وأبو ثور وأبو عبيد‏؟‏‏؟‏ أن المطلقة ثلاثا عليها الإحداد؛ وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عيينة‏.‏ قال الحكم‏:‏ هو عليها أوكد وأشد منه على المتوفى عنها زوجها؛ ومن جهة المعنى أنهما جميعا في عدة يحفظ بها النسب‏.‏ وقال الشافعي وأحمد وإسحاق‏:‏ الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا‏)‏ دليل على أن المطلقة ثلاثا والمطلِق حيُّ لا إحداد عليها‏.‏

أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه‏.‏ واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض؛ فقالت طائفة تعتد عدة الطلاق؛ هذا قول مالك والشافعي ويعقوب وأبي عبيد وأبي ثور‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبه نقول؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثا لو ماتت لم يرثها المطلق، وذلك لأنها غير زوجة؛ وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها‏.‏ وقال الثوري‏:‏ تعتد بأقصى العدتين‏.‏ وقال النعمان ومحمد‏:‏ عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض‏.‏

واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه؛ فقالت طائفة‏:‏ العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلق؛ هذا قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال مسروق وعطاء وجماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر‏.‏ وفيه قول ثان وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر؛ روي هذا القول عن علي، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء الخراساني وجلاس بن عمرو‏.‏ وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز‏:‏ إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أو طلق، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر؛ والصحيح الأول، لأنه تعالى علق العدة بالوفاة أو الطلاق، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون؛ ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها‏.‏ وأيضا فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت‏.‏ حاملا لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية‏.‏ ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها‏.‏ ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر، أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد ونية، والقصد لا يكون إلا بعد العلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية - دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل - وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏‏.‏ وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمس ليال‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ نصف عدة الحرة إجماعا، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيها بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع، لكن لصممه لم يسمع‏.‏ قال الباجي‏:‏ ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين، وليس بالثابت عنه أنه قال‏:‏ عدتها عدة الحرة‏.‏

قلت‏:‏ قول الأصم صحيح من حيث النظر؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة؛ فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر؛ فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وروي عن مالك أن الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ يبرأ الرحم؛ وهذا منه فاسد جدا، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها‏.‏

قلت‏:‏ وعليه بناء ما في المدونة لا عدة عليها إن كانت غير مدخول بها؛ لأنه قد علم براءة رحمها، هذا يقتضي أن تتزوج مسلما أو غيره إثر وفاته؛ لأنه إذا لم يكن عليها عدة للوفاة ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج‏.‏

واختلفوا في  عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها؛ فقالت طائفة‏:‏ عدتها أربعة أشهر وعشر؛ قاله جماعة من التابعين منهم سعيد والزهري والحسن البصري وغيرهم، وبه قال الأوزاعي وإسحاق‏.‏ وروى أبو داود والدارقطني عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال‏:‏ لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر؛ يعني في أم الولد؛ لفظ أبي داود‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ موقوف‏.‏ وهو الصواب، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وضعف أحمد وأبو عبيد هذا الحديث‏.‏ وروي عن علي وابن مسعود أن عدتها ثلاث حيض؛ وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي؛ قالوا‏:‏ لأنها عدة تجب في حال الحرية، فوجب أن تكون عدة كاملة؛ أصله عدة الحرة‏.‏ وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور‏:‏ عدتها حيضة؛ وهو قول ابن عمر‏.‏ وروي عن طاوس أن عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها؛ وبه قال قتادة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبقول ابن عمر أقول؛ لأنه الأقل مما قيل فيه وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه‏.‏ وذكر اختلافهم في عدتها في العتق كهو في الوفاة سواء، إلا أن الأوزاعي جعل عدتها في العتق ثلاث حيض‏.‏

قلت‏:‏ أصح هذه الأقوال قول مالك، لأن الله سبحانه قال‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ فشرط في تربص الأقراء أن يكون عن طلاق؛ فانتفى بذلك أن يكون عن غيره‏.‏ وقال‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏{‏ فعلق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة؛ فدل على أن الأمة بخلافها‏.‏ وأيضا فإن هذه أمة موطوءة بملك اليمين فكان استبراؤها بحيضة؛ أصل ذلك الأمة‏.‏

إذا ثبت هذا فهل عدة أم الولد استبراء محض أو عدة؛ فالذي ذكره أبو محمد في معونته أن الحيضة استبراء وليست بعدة‏.‏ وفي المدونة أن أم الولد عليها العدة، وأن عدتها حيضة كعدة الحرة ثلاث حيض‏.‏ وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا هي عدة فقد قال مالك‏:‏ لا أحب أن تواعد أحدا ينكحها حتى تحيض حيضة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وبلغني عنه أنه قال‏:‏ لا تبيت إلا في بيتها؛ فأثبت لمدة استبرائها حكم العدة‏.‏

أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة؛ لقوله تعالى‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

واختلفوا في  وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها؛ فقالت طائفة‏:‏ لا نفقة لها؛ كذلك قال جابر بن عبدالله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبدالملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي‏.‏ وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال؛ وروي هذا القول عن علي وعبدالله وبه قال ابن عمرو وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبالقول الأول أقول؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه؛ فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه‏.‏ وقال القاضي أبو محمد‏:‏ لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى‏.‏

قوله تعالى‏{‏أربعة أشهر وعشرا‏{‏ اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا؛ فقال بعضهم‏:‏ لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر، وإلا فهي مسترابة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة؛ لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعشرا‏{‏‏"‏روى وكيع عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية أنه سئل‏:‏ لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر‏؟‏ قال‏:‏ لأن الروح تنفخ فيها، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مركض‏.‏ وقال غيره‏:‏ أركضت فهي مركضة وأنشد‏:‏

ومركضة صريحي أبوها تهان لها الغلامة والغلام

وقال الخطابي‏:‏ قوله ‏{‏وعشرا‏{‏ يريد - والله أعلم - الأيام بلياليها‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إنما أنث العشر لأن المراد به المدة‏.‏ المعنى وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر‏.‏ وقيل‏:‏ لم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها‏.‏ ‏{‏وعشرا‏{‏ أخف في اللفظ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة؛ تقول‏:‏ صمنا خمسا من الشهر؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار‏.‏ وذهب مالك والشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلا حتى يمضي اليوم العاشر‏.‏ وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة فغلب التأنيث وتأولها على الليالي‏.‏ وإلى هذا ذهب الأوزاعي من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكلمين‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ ‏{‏أربعة أشهر وعشر ليال ‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير‏{‏

فيه ثلاث مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن، وهو عبارة عن انقضاء العدة‏.‏

الثانية‏:‏ قوله تعالى‏{‏فلا جناح عليكم‏{‏ خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء‏.‏ ‏{‏فيما فعلن‏{‏ يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد‏.‏ ‏{‏بالمعروف‏{‏ أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد؛ لأنه حق للأولياء كما تقدم‏.‏

الثالثة‏:‏ وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة‏.‏ وفيها رد على إسحاق في قوله‏:‏ إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأول، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل‏.‏ وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة؛ قال الله تعالى‏{‏فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن‏{‏ وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلا؛ فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك‏.‏ والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏235‏)‏

‏{‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا جناح‏{‏ أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع وقيل‏:‏ بل هو الأمر الشاق، وهو أصح في اللغة؛ قال الشماخ‏:‏

إذا تعلو براكبها خليجا تذكر ما لديه من الجناح

وقوله تعالى‏{‏عليكم فيما عرضتم به‏{‏ المخاطبة لجميع الناس؛ والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة، أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة‏.‏ والتعريض‏:‏ ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه؛ كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره‏.‏ وقيل؛ هو من قولك عرضت الرجل، أي أهديت إليه تحفة، وفي الحديث‏:‏ أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا؛ أي أهدوا لهما‏.‏ فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك‏.‏ ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس‏:‏ ‏(‏كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك‏)‏‏.‏ ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة‏.‏ وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم‏.‏ وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين‏:‏ الأول‏:‏ أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها‏.‏ والثاني‏:‏ أن يشير بذلك إليها دون واسطة؛ فيقول لها‏:‏ إني أريد التزويج؛ أو إنك لجميلة، إنك لصالحة، إن الله لسائق إليك خيرا، إني فيك لراغب، ومن يرغب عنك، إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدر الله أمرا يكن‏.‏ هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن يقول‏:‏ لا تسبقيني بنفسك، ولا بأس أن يهدي إليها، وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه؛ قاله إبراهيم‏.‏ وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج؛ وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال‏:‏ قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي في العرب‏.‏ قلت، غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي، قال‏:‏ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي‏.‏ وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبى سلمة فقال‏:‏ ‏(‏لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي‏)‏ كانت تلك خطبة؛ أخرجه الدارقطني‏.‏ والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض؛ قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم‏.‏ وكره مجاهد أن يقول لها‏:‏ لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا‏.‏ قال القاضي أبو محمد بن عطية‏:‏ وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من خطبة النساء‏{‏ الخطبة ‏(‏بكسر الخاء‏)‏‏:‏ فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول‏.‏ يقال‏:‏ خطبها يخطبها خطبا وخطبة‏.‏ ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

برح بالعينين خطاب الكثب يقول إني خاطب وقد كذب

وإنما يخطب عسا من حلب

والخطيب‏:‏ الخاطب‏.‏ والخطيبى‏:‏ الخطبة؛ قال‏:‏ عدي بن زيد يذكر قصد جذيمة الأبرش لخطبة الزباء‏:‏

لخطيبي التي غدرت وخانت وهن ذوات غائلة لحينا

والخطب؛ الرجل الذي يخطب المرأة؛ ويقال أيضا‏:‏ هي خطبه وخطبته التي يخطبها‏.‏ والخطبة فعلة كجلسة وقعدة‏:‏ والخطبة ‏(‏بضم الخاء‏)‏ هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره‏.‏ قال النحاس‏:‏ والخطبة ما كان لها أول وآخر؛ وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو أكننتم في أنفسكم‏{‏ معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها‏.‏ والإكنان‏:‏ الستر والإخفاء؛ يقال‏:‏ كننته وأكننته بمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏، كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا؛ ومنه بيض مكنون ودر مكنون‏.‏ وأكننته أسررته وسترته‏.‏ وقيل‏:‏ كننت الشيء ‏(‏من الأجرام‏)‏ إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه‏.‏ وأكننت الأمر في نفسي‏.‏ ولم يسمع من العرب ‏{‏كننته في نفسي‏{‏‏.‏ ويقال‏:‏ أكن البيت الإنسان؛ ونحو هذا‏.‏ فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد‏.‏ ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها‏.‏

استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حد؛ وقالوا‏:‏ لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد؛ لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح‏.‏ قلنا‏:‏ هذا ساقط لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف؛ والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرض؛ لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح‏.‏

قوله تعالى‏{‏علم الله أنكم ستذكرونهن‏{‏ أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم؛ فرخص في التعريض دون التصريح‏.‏ الحسن‏:‏ معناه ستخطبونهن‏.‏ ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سرا‏{‏ أي على سر فحذف الحرف؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر‏.‏

واختلف العلماء في معنى قوله تعالى‏{‏سرا‏{‏ فقيل؛ معناه نكاحا، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني؛ بل يعرض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية؛ هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم‏.‏ ‏{‏وسرا‏{‏ على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسرين‏.‏ وقيل‏:‏ السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها‏.‏ قال معناه جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد، والحسن وقتادة والنخعي والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهن زنا، واختاره الطبري؛ ومنه قول الأعشى‏:‏

فلا تقربن جارة إن سرها عليك حرام فأنكحن أو تأبدا

وقال الحطيئة‏:‏

ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع

وقيل‏:‏ السر الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح فإن ذكر الجماع مع غير الزوج فحش؛ هذا قول الشافعي‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي

وقال رؤبة‏:‏

فكف عن إسرارها بعد العسق

أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك‏.‏ وقد يكون السر عقدة النكاح، سرا كان أو جهرا، قال الأعشى‏:‏

فلن يطلبوا سرها للغنى ولن يسلموها لإزهادها

وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها، ولن يسلموها لقلة مالها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ معنى قوله ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سرا‏{‏ أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك؛ فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن؛ وهذا هو معنى القول الأول؛ فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول؛ وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق‏.‏ وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال‏:‏ الآية منسوخة بقوله تعالى‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏{‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد بن عطية‏:‏ أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته‏.‏ قال ابن المواز‏:‏ وأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه وإن نزل لم أفسخه‏.‏ وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها‏:‏ فراقها أحب إلي، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة؛ فإذا حلت خطبها مع الخطاب؛ هذه رواية ابن وهب‏.‏ وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا؛ وقاله ابن القاسم‏.‏ وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه لأن النكاح حادث بعد الخطبة؛ قاله ابن المنذر‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا أن تقولوا قولا معروفا‏{‏ استثناء منقطع بمعنى لكن؛ كقوله‏{‏ إلا خطأ‏}‏النساء‏:‏ 92‏]‏ أي لكن خطأ‏.‏ والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض‏.‏ وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة‏:‏ احبسي علي نفسك فإن لي بك رغبة؛ فتقول هي‏:‏ وأنا مثل ذلك؛ وهذا شبه المواعدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏{‏ قد تقدم القول في معنى العزم؛ يقال‏:‏ عزم الشيء وعزم عليه‏.‏ والمعنى هنا‏:‏ ولا تعزموا على عقدة النكاح‏.‏ ومن الأمر البين أن القرآن أفصح كلام؛ فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته؛ وقد قال الله تعالى‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏البقرة‏:‏ 227‏]‏ وقال هنا‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏{‏ والمعنى‏:‏ لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ ضرب فلان الظهر والبطن؛ أي على‏.‏ قال سيبويه‏:‏ والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ولا تعقدوا عقدة النكاح‏{‏؛ لأن معنى ‏{‏تعزموا‏{‏ وتعقدوا واحد‏.‏ ويقال‏{‏تعزموا‏{‏ بضم الزاي‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى يبلغ الكتاب أجله‏{‏ يريد تمام العدة‏.‏ والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة؛ سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال ‏{‏كتاب الله عليكم‏{‏ وكما قال‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا‏}‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فالكتاب‏:‏ الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله؛ ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ أي فرض‏.‏ وقيل‏:‏ ، في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله؛ فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن‏.‏ وعلى الأول لا حذف فهو أولى، والله أعلم‏.‏

حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏{‏ وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة‏.‏ وأباح التعريض في العدة بقوله‏{‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏{‏ الآية‏.‏ ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم‏.‏ واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة؛ وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها‏.‏ واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه؛ وذلك قبل الدخول وهي‏:‏

فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما، وأنه يكون خاطبا من الخطاب؛ وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه (2)‏‏.‏ وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول؛ ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم؛ أصله إذا بنى بها‏.‏ وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها وهي‏:‏

فقال قوم من أهل العلم‏:‏ ذلك كالدخول في العدة؛ يتأبد التحريم بينهما‏.‏ وقال قوم من أهل العلم‏:‏ لا يتأبد بذلك تحريم‏.‏ وقال مالك‏:‏ يتأبد التحريم‏.‏ وقال مرة‏:‏ وما التحريم بذلك بالبين؛ والقولان له في المدونة في طلاق السنة‏.‏ وأما إن دخل في العدة، وهي‏:‏

فقال مالك والليث والأوزاعي‏:‏ يفرق بينهما ولا تحل له أبدا‏.‏ قال مالك والليث‏:‏ ولا بملك اليمين؛ مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها‏.‏ واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لا يجتمعان أبدا‏.‏ قال سعيد‏:‏ ولها مهرها بما استحل من فرجها؛ أخرجه مالك في موطئه وسيأتي‏.‏ وقال الثوري والكوفيون والشافعي‏:‏ يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب‏.‏ واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها؛ فكذلك وطؤه إياها في العدة‏.‏ قالوا‏:‏ وهو قول علي‏.‏ ذكره عبدالرزاق‏.‏ وذكر عن ابن مسعود مثله؛ وعن الحسن أيضا‏.‏ وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان‏.‏ وذكر القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى فقال‏:‏ لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبني بها في العدة أو بعدها؛ فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد؛ وبه قال أحمد بن حنبل‏.‏ وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أن في التي يتزوجها الرجل في عدة من طلاق أو وفاة عالما بالتحريم روايتين؛ إحداهما‏:‏ أن تحريمه يتأبد على ما قدمناه‏.‏ والثانية‏:‏ أنه زان وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة‏.‏ ووجه الرواية الأولى - وهي المشهورة - ما ثبت من قضاء عمر بذلك، وقيامه بذلك في الناس، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يعلم له مخالف؛ فثبت أنه إجماع‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره؛ وهذا حكم الإجماع‏.‏ ووجه الرواية الثانية أن هذا وطء ممنوع فلم يتأبد تحريمه؛ كما لو زوجت نفسها أو تزوجت متعة أو زنت‏.‏ وقد قال القاضي أبو الحسن‏:‏ إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأسند أبو عمر‏:‏ حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أشعث عن الشعبي عن مسروق قال‏:‏ بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال‏:‏ لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال؛ وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال‏:‏ يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة‏.‏ قيل‏:‏ فما تقول أنت فيهما‏؟‏ فقال‏:‏ لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء‏.‏ فبلغ عمر فخطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد‏.‏ وفي اتفاق عمر وعلي على نفي الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد؛ إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه‏.‏ واختلفوا هل تعتد منهما جميعا‏.‏ وهذه مسألة العدتين وهي‏:‏

فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر؛ وهو قول الليث والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وروي عن علي كما ذكرنا، وعن عمر على ما يأتي‏.‏ وروى محمد بن القاسم وابن وهب عن مالك‏:‏ إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالشهور؛ وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة‏.‏ وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه؛ فدل على أنها في عدة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه‏.‏ أجاب الأولون فقالوا‏:‏ هذا غير لازم لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني؛ وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه‏.‏ وخرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما؛ ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا‏.‏ قال مالك‏:‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ ولها مهرها بما استحل من فرجها‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وأما طليحة هذه فهي طليحة، بنت عبيدالله أخت طلحة بن عبيدالله التيمي، وفي بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى‏:‏ طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل، ولا أعلم أحدا قاله‏.‏

قوله ‏(‏فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات‏)‏ يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة‏.‏ وقال الزهري‏:‏ فلا أدري كم بلغ ذلك الجلد‏.‏ قال‏:‏ وجلد عبدالملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة‏.‏ قال‏:‏ فسئل عن ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال‏:‏ لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين، وقال ابن حبيب في التي تتزوج في العدة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الولي وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدة، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه‏.‏ وقال ابن المواز‏:‏ يجلد الزوجان الحد إن كانا تعمدا ذلك؛ فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب؛ وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأة وزوجها بالمخفقة ضربات‏.‏ وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقب‏.‏ ويحمل قول ابن المواز على أنهما علما التحريم واقتحما ارتكاب المحظور جرأة وإقداما‏.‏ وقد قال الشيخ أبو القاسم‏:‏ إنهما روايتان في التعمد؛ إحداهما يحد، والثانية يعاقب ولا يحد‏.‏

قوله تعالى‏{‏واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه‏{‏ هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه‏.‏